لا تَقلق .. رِزقُكَ على الله .. لكن كيف !؟

الديانات السماوية ، ديانات عظيمة ، لو لم تتعرض للتشوية في التفسير والفهم ، والتحريف ، وإقحامها في السياسة — مهنة اللاأخلاق — او لو سَلِمت من إقحام رجال الدين لفهمهم المحدود ، او إقحام أنوفهم بما يجب ان لا يُقحموها فيه ، لكانت البشرية كلها بخير عميم . 

 

من حقي ان أتحدث عن ديني ، دين الإسلام العظيم . مُصيبة هذا الدين فيمن يدّعون أنهم رجالاته ، ومفسِّريه ، وشيوخه ، ودُعاته ، او من يعتقدون أنهم يملكون صكوك غفرانه ، او مفاتيح جنّاته ، فيُكفِرون هذا ، ويُزندقون ذاك ، او يتزلفون لحاكم ، فيلوون عُنق الدين ويُوجهون تفسير الآيات والمفردات عنوةً لتتطابق مع فتوى قسرية ، ليست من الدين في شيء ، ( فيتفزلك )، ويلوي عنق الدين للإتيان بتفسير يطابق ويدعم أوامر هذا الحاكم او ذاك ، حتى ولو كانت حُرمة ذلك بيّنة ، وواضحة لكل ذي لُبّ . 

ديننا ليس هكذا !؟ الإسلام العظيم ليس هكذا !؟ الإسلام دين الحياة ، والعطاء ، والإبداع ، والإجتهاد ، والإنتاج ، والسعي ، لا يدعو الى الإتكالية والخنوع ، والكسل ، والخمول . الإسلام حاشا ان يدعو الى الدروشة ، ونبذ الحياة . الإسلام دين العمل والجد والإجتهاد . الإسلام لا يمكن ان يدعو الى الإتكالية والتواكل . 

أشعر بالقهر ، وأكاد أفقد أعصابي عندما أسمع عبارات مثل : [[ لا تقلق ، رِزقُك على الله / إن جريت جري الوحوش ، غير رزقك ما بتحوش / حُط عنها وإستريح  اللي كاتبه لك ربك من رزق بيجيك … الخ ]] . 

لا تقلق ، رزقك على الله . نعم لَستُ بقلقٍ ، ورزقي ،  ورزق كل مخلوقات الله على الله . وهذا أمر بديهي . لكن السماء لا تُمطر ذهباً ولا فضة  . فحتى تنال مخلوقات الله ، رزق الله ، عليها ان تسعى ، وتجتهد ، وتجهد ، وتعرق ، وتتعب ، وتفكر ، وتخطط ، وتطبق الخطط ، بدقة . وبعد ان تقوم بذلك كله — وهو الذي يندرج تحت مسمى السعي — يكون المخلوق قد ( عَقِلْ ، من إعقِل ) بعدها توكل على الله الكريم الوهاب ، الذي هو رازقك لا محالة ، ( بعدها حُط عنها وإستريح ) كما يقول المثل الشعبي . وهنا تكون قد توكلت على الله ، الذي لا يخيب رجاه ، بعد ان عَقلت . وهذا ينطبق على كل مخلوقات الله من العصفور الصغير ، والحشرات الأصغر ، الى ان تصل سلسلة مخلوقات الله الى الإنسان . 

جاء رجل الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له : أُرسِلْ ناقتي وأتوكل ؟ قال (( إعقلها وتوكل )) صدق رسول الله . وقال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه ، الخليفة العادل (( لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق ، ويقول اللهم إرزقني ، فقد علمتم ان السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة )) . 

الإسلام العظيم يُفرّق بين التوكل والتواكل . وللتفريق بينهما أرى ضرورة تقديم تعريف مختصر جداً لكل منهما . التوكل :— تعني تفويض الأمر لله تعالى والثقة بما قَدَّر مع الأخذ بالأسباب والجد والإجتهاد . أما التواكل :— فتعني تفويض الأمر لله تعالى دون الأخذ بالأسباب ، ودون العمل والإجتهاد ، فيجلس الإنسان ينتظر الأحداث التي تجري من حوله ، دون ان يفعل شيئاً ، ليقول في نهاية المطاف : هذا قدر الله تعالى . وهذا هو التواكل والتفريط . فقد أمرنا الله تعالى بالعمل والإجتهاد ، والأخذ بكافة أسباب السعي ، لتحقيق المُراد . لذلك على كل عاقلٍ ذي لُب ان يسعى ، ويجتهد ، ويأخذ بكل الأسباب المتاحة ، بعدها يتوكل على الله سبحانه وتعالى ، ويطمئن ، وينتظر أمره ، ويتقبله ، دون أن يجزع ، ولا يلومن نفسه ، لأنه توكل بعد ان عَقِل . فالرزق من عند الله سبحانه وتعالى ، وانت عقلت وتوكلت ، ولا لوم عليك . 

ثُم : كيف لك عَين ان تطلب من الله ان يُعينك ، ويُساندك ، ويَرزقك وأنت لا تتقرب اليه وتعبده حق عبادته !؟ لو كانت لك حاجة عند شخص ما وكنت لا تعرفه ، ستُشغِّل كل الواسطات المُتاحة ، لتهيء الظروف لتتقدم بطلبك . واذا كنت تعرفه ،  وكان بينكما علاقة طيبة وتواصل مستمر ومنتظم ستذهب له وأنت متأمل بتلبية طلبك . لكن إذا كنت تعرف الشخص  ولا صلة بينكما ، هل تتجرأ وتطلب !؟ وإذا طلبت في أغلب الأحوال من البديهي ان لا يُستجاب لطلبك . وكذلك قصة الإنسان مع ربه . فاذا كُنت تعرفه لكن لا صلة بينكما ، لا يكون لك حتى  حق الطلب منه . أما إذا كانت الصلة وطيدة ، ومستمرة ، ومنتظمة ، وتبتعد عن نواهيه ، وتأتي عزائمه ، ويستقيم طبعك مع القيم التي سنّها ربك ، ستطلب وبكل جرأة ، وتبتهل اليه وأنت واثق من الإستجابه .