قراءة | الواقع الصعب والنفاق السياسي . كتبه المهندس أبو الحارث خالد بدوان السمعاني



من أعظم ما قرأت - وكل مافي القران عظيم - قوله تعالى: 

{ وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ ٱلْأَعْرَابِ مُنَٰافِقُونَ ۖ وَمِنْ أَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ ۖ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ ۖ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ۚ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍۢ } 

تعالوا بنا نرجع إلى الوراء قليلا .. بضعة قرون .. حين كانت بيئة يثرب تعج بالخلاف القبلي الكبير الذي كان بين الأوس والخزرج والذي أدى إلى حروب و وسيول دماء كان من نتائجه مقتل سيد الحيين في يوم بعاث، وما ادراك ما يوم بعاث!.. يوم أسود في الذاكرة ..لكنهم اتفقوا بعد ذلك اليوم على انتخاب ملك عليهم يجمعون به ما تفرق، ويداوون به ما تقرح .. وكان هذا الشخص المختار هو عبد الله بن أبي بن سلول .. 
لكن حكمة الله بالغة .. فأبى الله أن يتم ذلك لابن سلول بمجيء رسول الإسلام إلى يثرب ( المدينة النبوية)، فاجتمع الناس فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقع تاج ابن سلول إلى غير رجعة !.

فوات المصالح لأصحاب المصالح امتحان حقيقي وصعب .. امتحان يسقط أمامه قناع كل من يدعي صيرورة المصلحة الوطنية فوق كل اعتبار .. 

ابن سلول أعلن إسلامه وتصديقه لدعوة رسول الله؛ بل كان يقف بعد الصلاة يحض الناس على نصرة رسول الله .. وكأنه يوجه رسالة مفادها: صحيح أني لم أصبح ملكا عليكم لكن مصلحة المدينة إن كانت ستتحقق ب محمد بن عبدالله القرشي فأنا أول من سيكون معها.

شعارات رنانة .. تكذبها الأفعال والأقوال، وقديما قالوا: لسان الحال أصدق من لسان المقال.

هذا التلون في الشخصية .. وأن يكون الظاهر مخالفا للباطن ..وصم ابن سلول بلقب عاش ومات واشتهر به إلى يومنا هذا وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.. «رأس المنافقين» وبئس اللقب.

لقد كان رأس النفاق ابن سلول مثالاً حياً وواقعيا لطبقة أصحاب المصالح الذي يمارسون الكذب بحجة اللعبة السياسية! 

أي بلية تبتلى بها الدول إذا كان الذين  يمارسون التضليل والتشويش هم من النخبة الذين لهم تأثير في الاقتصاد والسياسة وغيرهما.

 إن التضليل من هؤلاء مرده وخيم أليم على الناس والعامة. فأكاذيب هذا النوع من الناس مخاطرة عظيمة قد تودي بمجتمع أو بدولة بأكملها. 

ما أبشع الكذب والنفاق حين يأتي ممن يتوقع منهم أن يكونوا أمناء على الحقيقة دون تزوير أو تضليل.

إن ابن سلول لم ينس يوما أن منصب الملك قد فاته بسبب محمد بن عبد الله، رسول الله، فكانت أفعاله الخفية كلها تعمل للإيقاع بمن أخذ محله ومكانه الذي كان يتمناه.

وهكذا هو الحال اليوم للأسف، فمن ضاع عليه كرسي الجاه والمال ..أو أراد كرسيا ما .. فلن يهنأ له بال ما دام هذا الكرسي لم ينتقل إلى ملكه .. 

لقد بلغ الحقد الدفين عند ابن سلول أن ينسحب بثلث جيش المسلمين في غزوة أحد ليترك جيش المسلمين في لغة العسكريين في مواجهة الفناء ..

 لم يكن عند ابن سلول أي تردد في التسبب بقتل أكثر من ٧٠٠ شخص إذا كان ذلك سيرد إليه كرسيه الذي ضاع.

عنيد بليد من ينكر أن الدول تسعى -بشكل عام- للإصلاح وتحسين الحالة التنموية والمعيشية لمواطنيها والنهوض الرامي إلى التقدم والتطور، حسب ظروفها ومواردها وإمكاناتها، ولكن وبسرعة الصوت تظهر العقبات متعددة الأوجه لتمنعها من تحقيق أي تقدم فعلي على الأرض، ولعل من أهم الأسباب: طبقة المنافقين السياسيين الذين يملأون الدنيا بخطاباتهم الهادفة لتحقيق مصالحهم الشخصية، أو أصحاب القرار الذين يقعون فريسة كذبهم وخداعهم. 

إنها ورطة النفاق السياسي ياسادة.

اعلم أخي القاريء الكريم أن أخطر أشكال النفاق السياسي: نفاق الرأي العام. 

ما أبشع أن ترى من يسعى لكسب ود المجتمع بالمجاملة والمداهنة على حساب الحقيقة والواقع، بمعنى آخر على حساب تقدم الدولة ونموه.

آفة الكذب الذي يمارسه المنافقون السياسيون لم تعد  اليوم محصورة بالإخبار بخلاف الواقع، فقد أصبح الكذب اليوم آلة قضاء على الواقع، وإتلافاً فعلياً لوثائقه ومستنداته الأصلية.

لقد انتقل بنا الكذب السياسي من حالة إخفاء الحقائق إلى إتلافها، ومن المكر التاريخي إلى المكر بالتاريخ.

والسؤال الملح هنا: ماهي درجة الحصانة التي يتمتع بها شعبنا العربي عموما والأردني خصوصا ليكون عصيا على آلة الدمار التي يستخدمها المنافقون السياسيون ؟!

في رأيي ومن خلال مشاهداتي على مدى سنين حياتي فإن شعوبنا العربية تعاني من ضعف الحصانة الفكرية والثقافية والسياسية والأخلاقية أمام مختلف أنواع النفاق ومظاهره وخاصة ما أسميناه: النفاق السياسي.

المجتمعات العربية اليوم تقف وجها لوجه أمام طابور المنافقين الذين تتضاعف أعدادهم في العادة في كل مرحلة حاسمة أو ظرف استثنائي معقد! حيث تكون الفرصة مهيأة لهم أكثر  في حالة عدم الاتزان تلك لبث المزيد والمزيد من الدعايات الكاذبة والشعبويات المفضوحة، وبث اليأس و الانهزام وتدمير عوامل الثقة بالنفس.

عبدالله ابن سلول لم يكن رأسا المنافقين فحسب بل كان مثالا حيا على طبقة أصحاب المصالح!

هذه الطبقة التي تشكل الخطر الحقيقي على أمن وسلامة الدول، ومجابهة هذه الطبقة واجب وطني وشرعي.

وبدل أن يتصدر الرأي العام المشهد فإنه يبقى سلبياً 
في مواجهة هذه الطبقة، ويترك 
هذه المهمة للحكومة، ثم تكون مهمته الوحيدة بعد ذلك إلقاء اللوم وكيل التهم.

وهنا نخرج بخلاصة مفادها: لا يشيع الفساد في الدولة إلا حين 
يستغل طبقة أصحاب المصالح الرأي العام ويخادعونهم، هذا اولا، ثم في ارتفاع منسوب السلبية عند الرأي العام، واخيرا اختفاء المنظومة القانونية العقابية الرادعة.

ثلاثية تستحق عملا جادا من الذين من الله عليهم بالصدق والأمانة والإخلاص ليوقفوا هذا الصنف عن لغة التدمير التي يتقنونها.